وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ويؤمر بأربع كلمات} هذا الملك يأتي إِلَى هذا الجنين فيكتب أربع كلمات {رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد} فقوله: "رزقه" يكتب كل ما سيرزق هذا الإِنسَان في حياته، ويوضح ذلك ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {إن روح القدس نفث في روعي} أي: ألقي في نفسي وألقي في قلبي {أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب}.
فيكون الطلب كما وصفه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طلب الذين لا يسألون النَّاس إلحافاً، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وليس رزقه بكثرة الحرص ولا بالإلحاح ولا بكثرة الجهد والعمل، صحيح أنه يعمل ويجتهد ويطلب ويسأل النَّاس فيما هو جائز شرعاً أن يسألهم فيه، لكن كل ذلك مع التعفف عدم الإلحاح، بل مع الطلب الجميل، لأنه لن تموت نفس إلا إذا استكملت ما كتب لها من الرزق، ولو بقي لإنسان أن يأكل شيئاً ما لن يموت حتى يأكله.
ولهذا يعطى للإنسان الشربة من الماء أو التمرة فيشرب النصف أو يأكل النصف ثُمَّ تقبض روحه، ويترك النصف الآخر لأنه أخذ النصف المكتوب، وترك النصف الذي لم يكتب، فلا يمكن أبداً أن يموت إنسان وقد بقي مما كتب له شيء، فهذا الرزق أما الأجل فقد قال تعالى: ((إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)) [يونس:49].
فكل نفس تتنفسه معدود، وعمر كل إنسان محسوب، فإذا جَاءَ الأجل فقد يستنشق الإِنسَان النفس ثُمَّ لا يخرجه، أو يخرجه ثُمَّ لا يدخله، عندئذ ينقطع عن هذه الدنيا فيستكمل ما كتب له نَفَساً نَفَساً، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قدر ذلك وكتبه لا محالة، فهذا يكتب عند أول ما تنفخ الروح.
((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ))[الحديد:23] فلو أنا آمنا بالقدر بهذه الحقيقة، لما كَانَ هذا الأسى والجزع والقنوط إذا أصابنا الشر وأصابنا ما نكره، ولما كَانَ الهلع والفرح والعُجب إذا جاءنا ما نريد، فإن المسألة مكتوبة لا زيادة في أحدهما ولا نقصان منه.
قوله: [وعمله] فكل ما يعمل من أعمال الخير أو الشر فإنه مكتوب مسطر، فالعمل مكتوب وقد يقول قائل مثلما قال سراقة رضى الله تَعَالَى عنه: {فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير} فيكتب العمل، ومع العمل يأتي الأمر الرابع وهو شقي أو سعيد.
إذاً: عندنا أمران: الأول: عمل، والثاني: نهاية وخاتمة، فالعمل: عام قد يكون عمل خير أو عمل شر، والخاتمة هنا فَصَّلت (شقي أو سعيد). فقد يكون العمل عملاً فيه خير لكن النهاية شقاوة، أو العكس.
إذاً: هنا أمران كل منهما منفصل عن الآخر: العمل والخاتمة: إما الشقاوة وإما السعادة، ولهذا قَالَ: {فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها} فهذا الكلام شرح لمسألة الشقاوة والسعادة
ولهذا كَانَ عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ يقول: "السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه".